jeudi 7 avril 2016

الوثنيون والمسيحيون فى مواجهة القلق الكونى)) 1---2-- الأب أثناسيوس اسحق حنين




قرأت لكم :الأب أثناسيوس حنين – مطرانية بيرية المقدسة –اليونان
كتاب البروفسور دودس استاذ الأدب اليونانى - جامعة اكسفورد
الوثنيون والمسيحيون فى مواجهة القلق الكونى))
E.R. Dodds
Pagan and Christians in an Age of Anxiety
Cambridge University Press ,1965
H.D. Saffrey
PAIENS ET CHRETIENS DANS UN AGE D,ANGOISSE
Paris 1979
لا ينتهى الحديث والحوار عن العلماء الكبار امثال اوريجينوس واكليمنضس وغيرهم من علماء المسيحية الذين حملوا نير المواجهة مع اسود الفلاسفة والمثقفين فى عصرهم ’ وحاولوا ’ ونجحوا وأخفقوا ’ فى صنع جسور واقامة مودات مع علماء عصرهم من اساطين المثقفين ’ لهذا لا يمكن فهم مساهمات اولئك المفكرين ودورهم فى وضع مدماك فى العمارة المسيحية ’ الا اذا تعرفنا على ظروف عصرهم وثقافة ايامهم . نحن لسنا امام لاهوتيين محترفين من القرن الرابع والخامس والسادس مثل اغريغوريوس اللاهوتى وكيرلس الاسكندرى والذهبى الفم وباسيليوس العظيم وغيرهم من أباء القرون اللاحقة’ بل امام مفكربن من القرنين الثانى والثالث ’ هكذا لابد أن نتعرف على عظيم مثل اوريجينوس ’ العظيم فى نجاحاته والعظيم فى اخفاقاته والتى مهدت الطريق لنجاحات غيره من الأباء والذين لم ينكروا فضله وان انتقدوا بعض توجهاته .
هذا كتاب فريد من نوعه وجديد على القارئ العربى المثقف لاهوتيا ’ دينيا او دنيويا لأنه عبارة عن سلسلة محاضرات فى برنامج أكاديمى تم فى لندن برعاية علماء فى الأبائيات وعلى رأسهم الباترولوجى الكبير هنرى شادويك والغريب أنهم لم يكونوا يبحثون فى اللاهوت بالمعنى المعروف ’ بل يبحثون فى الحالة النفسية والروحية التى سيطرت على المسكونة فى نهايات القرن الثانى والقرن الثالث الميلادى . البحث من منطلق نفسى بحث وكيف عبر المسيحيون والوثنيون معا حالة القلق والمخاض أمام التغيرات الكونية التى صاحبت انتشار المسيحية وانحسار الوثنية . لقد عبرت البشرية فى القرن الثالث الميلادى أزمة قلق وجودى طاحنة حينما تم تنصير العالم الوثنى ’ ولم يختف العالم الوثنى ولا الثقافة العالمية ’ لهذا يحسب لاوريجينوس وغيره من علماء هذه الفترة محاولة خلق ما يسميه المثقفون اليوم (حالة تثاقف) بين الفلسفة السائدة والبشارة الناهضة . يرى المؤلف أن أهم عوامل تنصير الوثنيين هو قناعة المسيحيين التامة ’ نفسيا ووجوديا ’ قبل القناعة العقلية ’ بأن ايمانهم يستحق عناء الاستشهاد من أجله علما أونسكا أو فعلا ’ بينما بدأ الكثيرون من المثقفين والعامة والحكام الوثنيين فى الشك فى أن ايمانهم بالاصنام والاوهام والاشخاص والافكار لا يستحق أن يضحوا ’ فى سبيله ’ باعدائهم المسيحيين !. الجديد ان المسيحيون والوثنيون عاشوا ازمة وجودية كبيرة وفكرية واستعملوا نفس الاسلحة الفكرية للانتصار على التعب النفسى والاحباط الكونى والكأبة الفلسفية . لقد وقف المثقفون المسيحيون والوثنيون نفس المواقف من قضية الأنا والجسد وعالم الارواح والتى كانت بمثابة هى مواطن القلق النفسى والاحباط والسعى للأمان فى عالم بلا أمن نفسى ولا أمان عقلى وبلا استقرار مادى ’ بل عالم حروب وأخبار حروب .
ينقسم الكتاب الى :
مقدمة للعالم النفسى ديفروا واربعة فصول هى :
1 – الانسان وعالم المادة
2 –الانسان وعالم الارواح
3 –الانسان وعالم الله
4 – الحوار بين المسيحيين والوثنيين (وهنا دور العلماء المسيحيون وخاصة اوريجينوس ’ الذى انفرد بالقدرة على التحاور مع أعتى المثقفين اليونانيين فى عصره).
لقد تداخلت المفاهيم وتناحرت الأفكار وهذا يفسر معاناة الأباء والمسيحيون الأوائل فى حوارهم مع الواقع الثقافى السائد ’ يركز الكاتب على الفترة الحاسمة والحرجة والقلقة فى تاريخ الامبراطورية الرومانية وهى منذ تولى ماركوس اوريليوس الحكم فى عام 161 م الى تحول قنسطنطين الى المسيحية عام 312 وهى الفترة التى شهدت ظهور اختبارات روحية – دينية - جديدة وبدايه النهاية المادية للدولة الرومانية وسلطانها المطلق والالهى . القلق الذى يتكلم عنه الكاتب هو القلق المادى والقلق الروحى فى القرنين الثانى والثالث والكأبة بسبب من غياب المعنى والهدف . لا يعنى الكاتب من انتصر على من فى القرون الاولى ’ المسيحيون أو الوثنيون ’ بل يعنيه ما يجمعهم فى مواجهة أزمة المصير الانسانى أمام أزمات الوجود الكبرى . لقد بدأ الناس يصابون بالملل من البحث فى العالم الخارجى (الميغالوس كوسموس) ’ وبدأوا فى البحث فى عالمهم الداخلى (الميكروس كوسموس) . لقد مضى زمن التأمل فى جمال السماء والارض والكون ’ وبدأ التأمل فى اللاهوت اللامحدود واللامتناهى . يتسأل الكاتب هل سيجموند فرويد على حق حينما فسر هذا التحول على أنه نتيجة الرؤية المسيحية الرافضة للعالم البائد والارضى والساعية الى العالم الباقى والسماوى ! لقد ورث المسيحيون والوثنيون رؤية العالم المادى الفيزيقى من أرسطوا وعلماء الفلك الهيللينيون ’ وهذه الرؤية تتلخص فى أن الارض هى كوكب معلق فى الفضاء وسط كواكب تتحرك وهنا يأتى الغطاء الارضى السميك والممتد حتى القمر وابعد من القمر وعلى التوالى الشمس الكواكب الخمس ’ وهذا النظام رأه القدماء على أنه شئ من الالوهة ’ وأنه جميل وجدير بالعبادة ’ ولأنه يتحرك ذاتيا ’ فقد ظنوا أنه حى أو أن روحا ما يحركه. هذا هو التراث المشترك عند كل المدارس الفلسفية والثقافة الشعبية وما عاصره المسيحيون . قام ارسطو بتقسيم الخريطة الكونية وهى أنه فوق القمر توجد السماوات والتى تتحرك بها النجوم ’ وتحتها العالم الارضى عالم الصدفة والتعدد والتفكك والموت . ومن هنا ظهر التفريق التقليدى بين العالم السماوى والعالم الأرضى ’ وظهرت الحاجة الى الاخلاق لتنظيم العلاقة ’ أن تأكيد علماء الفلك الهيلينيين على أن الارض ما هى الا شئ صغير جدا فى الكون اللامتناهى ’ هى لحظة فى الابد ’ ادى الى وضع اسفين بين الارض والسماء ’ بين الزائل والدائم ’ الارض ما هى الا بخار وعدم ’ الارض ما هى الا طائر يطير وينطلق ويختفى قبل أن يراه أحد أو يمسكه ’ ان صخب الجيوش المتحاربة ما هو الا عراك الكلاب على قطعة من العظم ! من هنا أصر الاخلاقيون على باطل الاباطيل والكل باطل ’ ووعظوا عن عدم فائدة الرغبات الانسانية وعدم دوام الدنيا لاهلها ! وهذا ظهر عند سينيكا وسيشيرون وكلسوس وارسطوا ولوسيان .
هذا هو الجو الثقافى العام الذى عاش فيه المسيحيون والوثنيون ولقد تاثر الجميع بهذا الجو وانتقلت النظرة الافلاطونية التشاؤمية الخاصة بان العالم المحسوس هو عالم غير واقعى الى الاباء المسيحيين ’ قبل أن تتبلور الرؤية اللاهوتية الصحيحة ’ ومنهم اغريغوريوس النيصى الذى يرى فى شئون البشر لعب عيال يبنون قصر على الرمل ووصل اوغسطينوس الى اعتبار هذه الحياة ليست شئ اخر سوى كوميدية الجنس البشرى السخيفة . لقد سيطرت هذه الرؤية المتشائمة والكئيبة على المناخ الثقافى واليومى فى القرون الثانى والثالث ’ ’ تلك الفترة التى بدأ اللاهوت المسيحى يشق طريقه ليجد له مكانا ومكانة وسط الثقافة السائدة ويضع رسالة الانجيل فى قوالب ثقافية وبينية مجتمية جديدة ’ تلك الفترة التى كبر فيها شباب العلماء المسيحيون الشباب امثال اوريجينوس واكليمنض وسواهم . هذا الى جانب المفاهيم السائدة عن عالم الارواح والنجوم ولقد اتفق الجميع فى تلك الأيام اليهود والمسيحيون والغنوسيون والوثنيون على أن سلطان الارواح هو سلطان شرير(الجن والعفاريت). تصدى اوريجينوس لهذا المفهوم وأكد على أن النجوم لا تملك سلطان قدرى على الناس فى ذاتها ولا هى ألهة ’ بل هى علامات فى السماء ’ ألم يقل الله انه سيكون انوار فى السماوات وانها ستكون علامات ! هنا اوريجينوس ينقل العالم الوثنى من سطوة النجوم القدرية ’ الى وظيفتها اللاهوتية ’ هذا اسهام لاهوتى كبير فى وقته وربما أعد الطريق الى منظومة باسيليوس الكبير اللاهوتية فى (الهيكساميرون) أيام الخليقة الستة !. لقد حاور اوريجينوس وحوشا فكرية’ ويجب قرأة حياته ودراسة فكره فى ظروف عصره وتحديات ايامه وتكوينه الفكرى وذكائه الحاد وحماسة الشديد وحبه الجارف للمسيح ’ فبينما سيطر على الساحة الثقافية فكر أن هذا العالم الكئيب والمضطرب لا يمكن أن يكون قد خلقه اله سام ’ لقد رأى فالينتينوس فى (كتاب الحقيقة ) أن العالم ليس سوى مملكة الكابوس والذى فيها أما ان يهرب الانسان الى حيث لا يعرف الى أين ’ او يثبت مكانه ويبحث عما لا يعرف ! يرى فلانتينوس ان العالم قد خلقه اله جاهل لم يقدر ان يصنع أفضل ! أو اله قزم ! أو كما ظن ماركيون أن العالم خلقه اله قاس وبلا ذكاء وهو اله العهد القديم ’ او ان العالم قد خلقه ملائكة ثائرون على الله ! كان على المسيحية المستقيمة الرأى أن تحافظ على رؤية سفر التكوين من ناحية وعلى أن ترد بالحسنى على ثقافة عصرها من ناحية أخرى .
تصدى أوريجينوس لهذه القضية وتصرف بذكاء اذا حافظ على مبدأ الغنوسيين الثقافى العام والسائد ’ ولكنه ’ اعاد صياغته لاهوتيا فى ظروف أيامه اللاهوتية ’ نسب الخلق الى طاقات غير جسدانية اى روحية والتى تركت نفسها تتأمل الله ومن ثم نزلت الى الارض مخلوقات ’ محاولة فلسفية لاعادة قرأة قصة الخلق الكتابية . (كتاب المبادئ ) . هنا القضية ليست صحة الكلام او عدمه بل هو تقدير الصراع الفكرى الذى قام به هذا العالم المسيحى أمام سلاطين الفكر الفلسفى الوثنى وبحثه ’ لاسباب رعوية بحتة ’ عن نقاط تواصل وليس عن قطيعة ’ القطيعة ستأتى لاحقا حينما سيشتد ساعد المسيحية الناشئة ويتبلور علم اللاهوت وتعقد المجامع ويظهر اللاهوتيون الكبار والذين لم ينكروا فضل من سبق وصارع الوحوش الثقافية فى أفسس وغيرها من مدن الأغريق ’ معظم اباء القرون الرابع والخامس يذكرون فضل اوريجينوس ’ وحتى حينما تم ادانة بعض أرائه ’ هذا يدل على عظم شأنه واتساع أثره وسطوته الفكرية ’ والا لاهملوه والقوا به فى دائرة النسيان ’ حينما يبحث علماء جامعة السوربون عن اباء الكنيسة الذين يستحقون ان يتم تدريسهم فى جامعة السوربون ’ قسم الدراسات الهيللينية القديمة ’ ’ يضعون اوريجينوس فى أول القائمة .. أحد أهم قواعد دراسة الأباء ’ هو دراسة عصرهم وظروفهم ومنطلقات فكرهم ولغتهم وحالتهم الروحية والنفسية والا وقعنا فى براثن "التنزيل الأبائى" . الى اللقاء فى الحلقة القادمة .



قرأت لكم :الأب أثناسيوس حنين – مطرانية بيرية المقدسة –اليونان
كتاب البروفسور دودس استاذ الأدب اليونانى - جامعة اكسفورد

الوثنيون والمسيحيون فى مواجهة القلق الكونى))
E.R. Dodds
Pagan and Christians in an Age of Anxiety
Cambridge University Press ,1965
H.D. Saffrey
PAIENS ET CHRETIENS DANS UN AGE D,ANGOISSE
Paris 1979
الحلقة الثانية :

كلسوس واوريجينوس
(الحوار بين الفلاسفة الهيللينيين والمفكرين المسيحيين)
لقد غمرنى الاصدقاء الفاهمون والمتألهون العقول ’ بحبهم وحنانهم ’ بعد نشر الحلقة الاولى من كتاب عالم التاريخ الهيللينى الاكسفوردى البروفسور دودس ’ ونحن على يقين مع الأباء من أن وفاء وفطنة القارئ تستنفر طاقات الكاتب أو المترجم . لهذا أهدى للاصدقاء الحلقة الثانية ’ وهى ليست ترجمة بالمعنى الحرفى ’ بل هى انتقاء لكل ما يخص العالم المصرى ابن الالهه وسليل الفراعنة ( أورو –جينوس) (185 -254 ميلادية) ’ هذه الطاقة الفذة والعقلية الجبارة والقلب الطيب والمصرى الأصيل والاسكندرانى الهيللينى الثقافة والموسوعى المعارف . أوريجينوس هو من أوائل اللاهوتيين المسيحيين الذين قرروا خوض غمار الحوار الفكرى مع عتاة الفلاسفة الهيليينيين تلاميذ افلاطون واحفاد أرسطو. يحكى لنا المؤرخ كروزيل المتخصص فى اوريجينوس عن كيف انتهت حياة هذا الباحث فيقول " وسط ابداعات وكتاباته وحواراته ’ جاء اضطهاد داسيوس عام 250 ليضع نهاية لهذه المسيرة ’ تم القبض على اوريجينوس ووضعوه فى السجن وتعذيبه ولم يريدوا قتله(لقد مات والد اوريجينوس شهيدا) ’ بل لانهم ادركوا حجم شخصيته وانخ أشهر مفكر مسيحى فى عصره ’ و سعوا بشتى الطرق للحصول على وثيقة ارتداده عن المسيحية ’ كانت ستشكل اكبر عملية تبشير بالوثنية ! ’ ولكن موت الامبرطور (يمهل ولا يهمل !) حرره من السجن ’وكانت صحته قد تدهورت ومات بعدها بزمن قصير وله من العمر تسعة وستون عاما.(المعجم الموسوعى للمسيحية الاولى ’ الجزء الثانى’ باريس 1990 ص 1828 -1841 ).
حاولنا فى الحلقة الاولى تتبع أهم فترة تاريخية فى حياة المسيحيين الأوائل وهى الواقعة من 161 ميلادية الى تحول قنسطنطينوس الى المسيحية عام 312 م. قلنا أن الأجواء والأعباء والهموم السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية قد جمعت بين المسيحيين وغيرهم سكان المسكونة (الايكومينى) وقتها ’ لكن هذا لا يعنى أنه لا يوجد خلاف جوهرى بين اللاهوت المسيحى والتراث الفلسفى الهيللينى. السؤال هو كيف رأى المسيحيون الوثنيين وكيف راى الوثنيون المسيحيين ؟ نلاحظ ارتفاع المستوى الثقافى للحوار بين الطرفين ممثلا فى أوريجينوس وبورفيريوس وكلسوس ’ لم يقتصر الحوار بين المسيحيين وغيرهم على الخاصة ’ بل انتقل الى العامة فى المجالس المحلية والمدن الهيللينية الثقافة والساحات العامة (هذا المنظر الحوارى نراه الى اليوم فى اليونان!) ’ وفى نوادى شمال افريقيا والاسكندرية بالطبع . لم يكن الحوار بين شرائح المجتمع من مسيحيين وفلاسفة أغريق ’ يومها ’ حوارا جامدا وثابتا يقوم على احكام مسبقة ’ بل كان حوارا ديناميكيا يأتى فيه كل طرف بالجديد كل يوم. نستطيع أن نميز ثلاث مراحل فى تاريخ العلاقة بين الثقافة الفلسفية الهيللينية واللاهوت المسيحى :


أولا : لم يكن أى من الفكرين يشكل حيزا مغلقا ومنطوى على نفسه ’ وموحد ’ فحسب كلسوس ’ وهو من أساطين الفلاسفة اليونانيين والذى وجه أقسى نقد الى المسيحيين ’ وقام اوريجينوس بالرد عليه ’ ونعلم مدى ما وصل اليه هذا الحوار من رقى وموضوعية من حقيقة أننا لا نملك نص كتاب كلسوس (كلمة الحق أو العقيدة الحقيقية ) ’ ونتعرف على الكتاب من نصوص اوريجينوس . يرى كلسوس ’ بشئ من المبالغة ’ أن المسيحيين قد انقسموا الى جماعات ومدارس وأفكار وتوجهات ’ لا يجمع بينها سوى الأسم "مسيحى" ’ ’ بمعنى ’ حسب اوريجينوس ’ أنه لم يكن هناك قانون ايمان موحد ’ ولا كتب معترف بها رسميا ’ نعرف من وثيقة موراتورى الشهيرة (180 ميلادية) ’ أنها لا تشمل الرسالة الى العبرانيين وتشمل على رؤية بطرس الى أهل روما ’ كما نعلم أنه كان هناك من رجال الكنيسة المسيحية الناشئة ’ من كان يرفض انجيل يوحنا وسفر الرؤيا. كان أوريجينوس نفسه ’ يرى كتاب "الراعى لهرماس " على أنه كتاب "موحى به ". هذا الى جانب أن الارثوذكسية لم تكن قد انفصلت عم الهرطقة بشكل مجمعى قاطع ولاهوتى حاسم . لقد مثل الفيلسوف كلسوس أخطر وأذكى العقليات الفلسفية والموسوعية الثقافية – الملحدة فى عصره ’ تصدى للحوار معه العلامة المسيحى أوريجينوس . كان أوريجينوس على قناعة تامة بأن كلسوس يخلط بين المسيحية وغير المسيحية وبين اللاهوت ومذهب العرفانية (الغنوسية) الواسع الانتشار. بدأ الحوار فى تلك المرحلة ’ رأينا الأباء الرسوليون ’ وهم يكتبون لكى يثبتون أخوتهم فى الايمان المستقيم ’ بينما قام "الأباء المدافعون " بأخراج الفكر المسيحى من "الجيتو" الثقافى والنفسى ودافعوا عنه علانية أمام كبار المثقفين الهيلينيين (أفضل من تعبير وثنيين). لم يهدف اللاهوتيون المسيحيون الى اقناع الفلاسفة بالمسيحية ’ بقدر ما كان بهدف اقناعهم بوقف الاضطهاد والملاحقات الأمنية على أساس الهوية كما يقول اللبنانيون . كانت المسيحية فى منتصف القرن الثانى قد بدأت تشكل ظاهرة اجتماعية جديدة وحاضرة وواعدة ’ وتحول مشروع المسيحيين من الانتظار الرأسى فى انتظار مجئ تأخر ’ الى الامتداد الافقى لاشباع حاجات انسانية وخلاصية عاجلة ’ ومن هنا بدأ الحكام والمفكرون أمثال بلينوس ولوسيان وكلسوس فى تغيير موقفهم وأخذوا المسيحية على مأخذ الجد كظاهرة روحية وتيار فكرى جديد فى مجتمع يحكمه العسكر ويشرع له الفلاسفة. كان مجتمعا يحاول أن يتفلسف فيه الحكام ’ وويسعى لكى يحكم الفلاسفة !حسب أمنية افلاطون (هذا يفسر تعلق الاباطرة ’ لاحقا ’ بالمسيحية ودفاعهم عنا وتبنيهم الدعوة للمجامع المسكونية ) . رأى كلسوس فى المسيحية تهديد حقيقى للسلام الاجتماعى وزعزعة لأمن الامبراطورية. لم يتوقف كلسوس عند هذا الحد ’ بل رأى أن الكنيسة قد بدأت تتمأسس وصارت دولة داخل الدولة . يدعوا الفيلسوف كلسوس ’ المسيحيون ’ فى كتابه(العقيدة الحقيقية) ’ الى أن يصيروا مواطنون أصحاء وأن يتوقفوا عن التبشير ونشر المسيحية ’ قام بنشر هذا الكتاب ماركوس أوريليوس عام 178 وأنتشر الفكر هذا الكولسسى ولم يقدر ان يرد عليه أحد ’ الا أن جاء أوريجينوس.
المرحلة الثانية: بدأت من عام 203 - 248م حينما بدأ أوريجينوس فى القاء محاضراته فى الاسكندرية ومن ثم نشر الرد على الفيلسوف الهيللينى. سيطر على هذه الفترة انتشار الفقر واللأمان بين الناس جميعا على اختلاف مأربهم والشك فى أركان الدولة الرومانية ’ بينما شهدت الكنيسة نهضة روحية وفكرية وزيادة فى عدد المسيحيين ’ ساعد فى تلك النهضة النسبية التوقف الوقتى للاضطهاد والملاحقات وقصف الأقلام ! لعل أهم جديد فى الساحة هو ارتفاع مستوى التعليم بين المسيحيين بشقيه الفلسفى والدينى ’ اذا قرر أوريجينوس أن يلتحق بمدرسة الفلسفة التى يديرها ويشرف عليها الفليسوف أمونيوس ساكاس ’ (صارت قاعدة على دارس اللاهوت والأباء أن يدرس الفلسفة اليونانية واللغات القديمة الى اليوم وهذا ما حدث مع المترجم فى جامعة السوربون). كانت دروس المدرسة لا تقتصر فقط على الفلسفة وعلوم الكلام ’ بل تعدتها الى علوم الحساب والطبيعة وأرتكز منهج التدريس على أفلاطون شخصا ونهجا. هنا صار الحوار مع المثقفين الفلاسفة ممكنا بعد أن أقتنى اوريجينوس أليات الحوار وملك ناصية الدين والدنيا أى اللاهوت ’ مما دفعه ’ فى رده على كلسوس ’ الى أن يفتخر ’ عن حق ’ بتفوق المسيحيين الثقافى على نظرائهم الوثنيين . الدليل على هذا السمو الثقافى والروحى الذى حققه المسيحيون فى شخص أوريجينوس ’ هو الدعوة التى وجهتها الأمبراطورة جوليا الى المفكر المسيحى الشاب ’ لكى ما يأتى الى القصر ليحدثهم فى أسرار الدين وهموم الدنيا. كان الامبراطور الكسندروس ’ ابن جوليا ’ قد أقام هيكلا فى قصره ووضع فيه تماثيل للانبياء الاربعة (فى نظره) وهم ابراهيم وأورفيوس ويسوع المسيح وأوبلونيوس التيرونى.
المرحلة الثالثة : ففى عام 249 بدأت أول محاولة منظمة لتصفية المسيحيين والخلاص منهم نهائيا على يد دقليديانوس ’ تصفية جسدية للعامة واعتقال للمفكرين وكاد المخطط أن ينجح لولا سقوط داسيوس قتيلا فى المعارك !( الرب يدافع عنكم وأنتم ناشطون .). وسط هذا كله ’ كان قد أنتشر تيار عدائى شديد ضد المسيحيين ’ حتى أن اوريجينوس قد كتب يقول بأن المسيحيين قد صاروا مكروهون من كل الأمم ’ وكان على الأباء المدافعون ومن ضمنهم العلامة الاسكندرانى أن يبذلوا الجده حتى يقنعوا الحكام والمثقفين الغير المسيحيين ’ بأن المسيحية لا تناقض العقل ولا تلغى النقل ’ وبأن المسيحيين هم أناس عاديون وبسطاء وصادقون ويحبون الامبراطور ويصلون من أجله. لماذ لم يكن المسيحيون مقبولون فى الواقع السياسى والثقافى فى تلك الفترة من 161 – 321 ميلادية ؟
يكمن السبب فى تمسك المسيحييين بالتوحيد اللاهوتى وعدم الشرك بمن يعبدون ويحبون ’ لقد رفض المسيحيون رفضا باتا ’ كلفهم حياتهم ’ بأن يضعوا حبتان من البخور فى مبخرة لتقديمها للامبراطور والتبخير له فى عيد ميلاده ! كانت هذه تمثل أهانة مثلها مثل من لا يقف للعلم والنشيد القومى ! كان على المدافعيين أن يوضحوا بأن المسيحيين يحترمون الامبراطور ويجلون رموز المملكة ’ وأنهم لا يضعون فوق راس الامبراطور الا الله جل شأنه . كان الأباء المدافعون على قناعة تامة ’ بأن أى تنازل فكرى أو جبن نفسى أو كسل عقلى أمام الحاكم أو الفلاسفة ’ هو كفيل بأن يشجع الوثنية الرومانية واليونانية على ابتلاع المسيحية الناشئة ’ كما سبق لها وأبتلعت الديانات الشرقية . كان كلسوس يرى ’ بعنف ’ أن المسيحيين ينقطعون عن الجنس البشرى وأنهم يرفضون الحرب ضد البربر ’ وكان اوريجينوس يرد ’ بوداعة ’ ان المسيحيين يقدمون الكثير للامبراطورية بصلواتهم وأدعيتهم ’ الحقيقة هى أن فكرة أن المسيحيين يخدمون المجتمع عن طريق خدمة كنائسهم ’ لم تجد قبولا عند المفكرين أمثال كلسوس. لم يكن موقف اوريجينوس المسالم موقفا ناجحا ’ اذ تم طرد المسيحيون من المؤسسات التعليمية الوثنية. هذا أدى الى تغيير المسيحيين لموقفهم ’ ووجدنا فى القرن الثالث الكثيرون من المسيحيين يلتحقون بصفوف الجيش الرومانى مما أدى الى أن يقوم دقلديانوس بحركة تطهيرواسعة للجيش الرومانى من المسيحيين. لعل أخطر أتهام تم توجيهه للمسيحيين ’ هو أنهم وبسبب "كفرهم (رفضهم عبادة الملك)" صاروا هم سبب كل الكوارث التى تحل بالدولة وشعبها !. لقد مثل المسيحيون ’ فى نجاحاتهم وابداعاتهم ’ كبش الفداء فى يد الدولة الفاشلة والعقيمة !’ كما حدث فى عام 235 سلسلة من الزلازل فى أسيا الصغرى وحينما عجزت الدولة عن انقاذ الناس ’ شنت حمله اضطهاد ضد المسيحيين !!! حتى الحرب الاهلية التى سببها الناس أنفسهم ’ بغبائهم ’ فى عام 238 تم الصاقها بالمسيحيين !!! لقد ربط بورفيريوس بين انتشار الأوبئة فى روما وبين تقلص عبادة اسكليبيوس وانتشار ديانة الناصرى ! حتى أن اوغسطيوس قال يوما " أخشى أن يتم الصاق تهمة عدم سقوط المطر أو جفاف نهر النيل بالمسيحيين " .الشئ الرائع فى حوار اوريجينوس مع الفيلسوف كلسوس هو أن المفكر المسيحى لا يرفض كل ما يقوله المفكر الهيلينى جملة وتفصيلا ’مثل رأى كلسوس فى قضية التبشير ’ بل يقبل منه ما هو نقد حقيقى ويفند ما هو غير حقيقى ’ مما أعطى المفكر المسيحى مصداقية بين كبار المثقفين فى عصره من غير المسيحيين .
اذا جئنا الى الفكر اللاهوتى عند كلسوس واورجينوس ’ الاثنان موحدان بالله ’ ولكن الخلاف هو فى كنه وفحوى التوحيد! (ماأشبه اليوم بالبارحة !) كلسوس يرفض الشرك ويعتبر أن المسيحيين يكفرون بالله حينما يضعون الها أخر على نفس مستوى الله السامى . يجب أن لا ننسى أننا فى القرن الثانى الميلادى ولم تكن عقيدة الثالوث والتوحيد قد أخذت شكلها النهائى ’ لهذا يجب ان نعترف لاوريجينوس بالفرادة والسبق اللاهوتى فى تعامله مع هذه القضايا الدقيقة بجرأة ودالة لا تخلوا من مخاطر ! أو فى وضع اللبنات الاولى فى التعاطى معها ’ ولعله من الظلم والاجحاف أن نحكم على فكره اللاهوتى بمنظار العشر القرون الاولى وبعد سبع مجامع مسكونية . هنا يرد اورجينوس بأن الله الواحد يستخدم خداما غير منظورين وأن هذه الكائنات الغير المنظورة تمارس دورها فى تنظيم الارض وما عليها . الخلاف حول طبيعة الله السامية بين الفلاسفة الافلاطونيين الوثنيين واللاهوتيين الافلاطونيين المسيحيين هو خلاف جذرى ’ حاول بعض الفلاسفة تصوير الخلاف بأنه لفظى (المسكونية التلفيقية بدأت باكرا جدا !!!) يقولون أن شعوبا مختلفة وثقافات متباينة ’ قد أطلقت على الله ’ اسماء والقاب مختلفة !!! لا يوافق اوريجينوس على هذا الرأى ويتمسك بفرادة اللاهوت المسيحى والاعلان الخرستولوجى ويضع معالم الخرستولوجية الاولى حينما يقرر بأن هذا الاله السامى ’ جل جلاله ’ وهو القادر على كل شئ ’ يقدر أن يأخذ ويعانى شكل بشرى ويعانى من تواضع التجسد ’ ويتوقف ليسير الميل الثانى الفكرى مع محاوريه ويجد لهم العذر العقلى ’ وليس الوجودى ’ ليؤكد أن هذا أمر غير مفهوم عند الفلاسفة الهيلينيين . ومن هنا نفهم لماذا لجأ العالم الاسكندرى الى بذل الجهد لتقديم الخرستولوجيا ’ نكرر فى أيامه ’ على أسا س ان يسوع كشخص تاريخى هو اله ثانى غير زمنى مقتديا بنظرية اللوغوس الهيللينية! يسوع هو اللوغوس الغير الزمنى وهو " ممثل ومندوب ووسيلة " الله فى عملية الخلق وفى ادارة الكون. لكى ما يصل المدافعون الى العقل الفلسفى الوثنى ’ لم يشددوا كثيرا على الامات يسوع البشرية ’ لأن النقد الفلسفى الشديد ضد ناسوت المسيح قد أربك الاباء المدافعين . (هذا يفسر التطورات الثيؤلوجية والخرستولوجية اللاحقة الى أن وصلنا الى القرن السادس وربما الى اليوم وخاصة بعد ظهور الاسلام وتبنيه نظريات فلسفية وبدع مسيحية واساطير وثنية قديمة !).
اذا ما سالنا مثقف وثنى فى القرن الثانى عن الفارق الجوهرى بين المسيحى والوثنى ؟ لأجاب بأن الفارق هو بين "الدماغ" و "القلب " أى بين الحسابات العقلية والايمان القلبى بالمعنى البولسى العبرانى الخلفية وليس العقلانى الهيللينى ’ ما أذهل الوثنيين هو استعداد المسيحيون أن يموتوا فى سبيل ما لا يقدروا أن يبرهنوا عليه بالعقل ’ بل يعيشوه بالبصيرة القلبية !. بالطبع هذا هو مفهوم الايمان عند ىالفلاسفة "البيستيس " أى ما لا دليل عليه ’ بينما المسيحيون يفهمون ما يؤمنون به وهذا سيظهر فى القرون اللاحقة على يد اللاهوتيين المنهجيين أكثر من اوريجينوس وان كان قد أعد لهم الطريق . من أخطر الاتهامات التى وجهها كلسوس الى المسيحيين هى أنهم لا يحبون العلم ’ المسيحيون هم اعداء العلم (اتباع حزب بينما العلماء يدرسون اللاهوت ’ يكون البسطاء قد سرقوا الملكوت !!!).
هنا لا يملك العلامة المصرى من أن يشارك صديقه المثقف الغير المسيحى همومه ويوافقه على رايه ’ بلا عناد وخوف على سمعة (الكنيسة) . يرى كلسوس والفلاسفة اليونانيون أن المسيحيين يملكون العدالة والشجاعة وضبط النفس ’ويعوزهم البصيرة المعرفية والحدة العقلية والتى هى أساس الفضائل الثلاثة . هنا لا يملك العلامة المصرى من أن يشارك صديقه المثقف الغير المسيحى همومه ويوافقه على رأيه ’ بلا عناد وخوف على سمعة (الكنيسة) !!! يرد اوريجينوس بأن العامة يؤمنون ’ بينما الخاصة يبحثون فى اليات ايمان العامة ’ وهذا لا يلغى ’ يستمر اوريجينوس ’ فى أن العامة اليوم يفكرون فى ايمانهم بسبب من تحديات الحياة . (يجب أن لا ننسى كيف كان المسيحيون ينتظرون المجئ الثانى ويعدون العدة للسفر النهائى وقد حزموا حقائبهم ومنطقوا احقائهم ولكن حينما تأخر المجئ ’ باشروا أعمال الفكر للبقاء والبشارة والتزموا قضايا الارض والانسان ’ أن قضية الصدمة الروحية والارتباك الفكرى والحيرة الثقافية التى سببها تأخر مجئ المسيح صارت موضع لدراسات كثيرة وهامة نرجوا العودة اليها يوما). ويلقى اوريجينوس قنبلة ذكية فى أرض الفلاسفة بقوله أنه حتى العوام من الوثنيين لا يختارون دوما فلاسفتهم !’ أى أنه حتى فى الفلسفة الدماغية ’ مثل الاحزاب السياسية والنوادى الكبرى وشركات توظيف الأموال وغسيلها ونشرها وتنشيف دم الناس بيها ! ’ هناك جرعة كبيرة من الايمان والتسليم أى كان فحواهما .
والى أن نلتقى فى الحلقة الاخيرة ’ نلتقى فى الصلاة.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire