المسيحية بين الخبرة الروحية والمعرفة اللاهوتية
الاب اثناسيوس حنين –مطرانية بيرية -اليونان
نتابع هذه الأيام حوارا دأئما ساخنا ’ وأحيانا
جادا وصادقا ’ونادرا ما يكون موثقا ’على أجهزة التواصل الاجتماعى الالكترونية (الفيس
بوك-البالتك –المواقع المختلفة) حول قيمة الخبرة الروحية وعلاقتها بالمعرفة ويشدد البعض
على ضرورة المعرفةاللاهوتية (هذا التعبير جديد على الحوار العربى الدينى المعاصر)والدراسة
الاكاديمية... وضرورة الالمام باللغات الاصلية التى كتبت بها الخبرة المسيحية أى اللغات
التى انسكبت فيها حبرا خبرة الحياة الالهية المنسكبة على البشرية فى بشرية يسوع المسيح
(وليس نزلت بها الكلمو لم ينزل من السماء جسدا بل صار جسدا)’بينما يذهب البعض الأخر
للتأكيد على أن الاختبارات الروحية والتأملات البسيطة فى عمقها والعميقة فى بساطتها
هى الأبقى والأكثر أصالة ’ يقوم الطرف الثانى برفع شعار (لا نعرف الى الأن مصدره الأبائى
وفى أى مرجع جاء) وهو (أنه بينما يتباحث اللاهوتيون ’ يدخل البسطاء الملكوت) ’ ومن
ثم يقوم الطرف الأول باشهار الأية الشهيرة سيفا فى وجوه الجميع من أنه (هلك شعبى من
عدم المعرفة) بدون تعب البحث فى وضع القول الأبائى فى سياقه التاريخى واللاهوتى والاية
الكتابية فى سياقها التفسيرى حيث أن هوشع النيى 4:6 يوجه نقدا قاسيا لكهنة الشعب الذين
لا يعلمون الشعي صحيح الدين ’(أيات الله يتراشقون بالأيات!!!)’ ويتطوع بعض العارفين
بالقيام بتوسيع هوة الخلاف وذلك بالحديث عن مدارس البساطة والخبرة ومدارس المعرفة والفكرة
’ وذلك عن طريق تقسيم الأباء الى أباء البرية الروحانيين البسطاء (الجهلاء الحفاة والعراة
اللى مش عارفين وين الله حاططهم واللى بيقولوا كلام حلو قوى قوى بسيط !!!)وأباء الاكاديمية
اللاهوتيين العلماء(الارستقراط أصحاب الياقات المنشأة البيضاء والمتنأزحين والمفذلكين
والمتنعمين واللى بيتكلموا كلام كثير وكبير ومجعلص ’ما حدش فاهم منه حاجة واصل !!!
) .
السؤال الأول هل يمكن أن نجد خبرة بدون معرفة
أو معرفة لا اساس لها ’ حتى العقل الخالص الذى بحث عنه القيلسوف الفرنسى ديكارت لم
يخلو من المشاعر والخبرة ولعل خبرة صدمة الفيلسوف فى العقل السائد هى التى قادته الى
البحث عن العقل الخالص ’ اذا درسنا تاريخ الشعوب البدائية والحضارات القديمة سنجد أن
كل عمل قاموا به نابع من خبرة معرفية ومعرفة اختبارية مهما كانت فى نظرنا بسيطة أو
ساذجة (حكاية انه يفكر يضرب الظلتين فى بعض تطلع شرار ونار وغيرها الكثير)وعند العبرانيين
حينما قالت التوراة ( وعرف أدم امرأئته .....) لم يكن يقصد’ كما قال احد الوعاظ البسطاء
والظرفاء’ أن الله قد أعطى أدم كتالوجا عن مكونات حواء النفسية والجسمية بل اعطاه حواء
نفسها بشحمها ولحمها ودمها ليعاشرها ويتحد بها خبرة ومعرفة بما فى هذه الخبرة من صدمات
الاكتشاف وما فى هذه المعرفة من أيضا فرحة الفهم (هنا لابد من سؤال المتزوجين فقط
!!!) ’لا خبرة بدون معرفة قلت او كثرت ولا معرفة بدون خبرة قلت او كثرت ’ المسيحيون
الاوائل واجهوا تيارا كبيرا يتبنى اصحابه نظريات فلسفية فى المعرفة سماهم التاريخ
(الغنوسيون)من الكلمة اليونانية (غنوسيس) واعتبرهم المسيحيون الاوائل أنهم انتتقائيون
فى علاقتهم بالمسيح والانتقائية هى هرطقة أى أركز على جانب من القضية يهمنى واتجاهل
الجانب الأخر ’الهراطقة الكبار لم يكونوا الا علماء لاهوت كبار ولكنهم حاولوا تقديم
فكر بدون شركة اى خبرة الجماعة ’ عقل بدون الأخ !أو عقل متعال يدوس على الأخ ! بينما
المعرفة اللاهوتية المستقيمة هى علم فى شركة الأخوة كما يقول الشيوخ ’ بدون شركة لا
توجد خبرة وان انوجدت معرفة بدون شركة افخارستية ’فهى معرفة ناقصة عقلا ودينا.يقول
الاسقف العابر الى الارثوذكسية من الانجلكانية تيموثى وير فى كتابه الذى يوحد بين الخبرة
الروحية والمعرفة اللاهوتية (الكنيسة الارثوذكسية ايمان (خبرة ) وعقيدة (علم لاهوتى)
– بيت لحم 1985 ) ويقول (قال الفيلسوف الروسى فيدوروف :لقد كتب برنامجنا الاجتماعى
(يقصد المجتمع الروسى ) فى قلب عقيدة الثالوث’والارثوذكسية تؤمن بشغف أن عقيدة الثالوث
القدوس ليست بمثابة بحث لاهوتى رفيع يقتصر فهمه على اللاهوتيين المحترفين (معرفة اكاديمية
فقط)’ بل ان للثالوث أهمية فعلية’ وواقعية’بالنسبة لكل مسيحى (خبرة فى شركة)’ يعلمنا
الكتاب المقدس أن الانسان خلق على صورة الله ’على صورة الثالوث’ ففى ضوء خبرة الشركة
مع الثالوث يقدر الانسان أن يفهم من هو وما الذى يريده له الله أن يكون(اى المثال)’
حياتنا الخاصة ’ وعلاقاتنا الشخصية ’ وجميع مشاريعنا من أجل بناء مجتمع مسيحى’ تتعلق
كلها بلاهوت صحيح (خبرة عارفة ) حول الثالوث). ص28 .ويلخص القديس العلامة اليونانى
العربى والذى عاصر الغزو العربى لبلاد الشام فى القرن السابع القضية كلها أى قصية العلاقة
بين الخبرة الروحية والمعرفة اللاهوتية فى شرحه لأية سفر التكوين عن خلق الانسان فى
كتابه( الايمان المستقيم) بقوله (تعبير "على صورتنا" يشير الى العقلانية
والحرية فى حين يشير تعبير "على مثالنا "الى التمثل بالله فى طريق الفضيلة
"اذن القضية لاهوتية بالدرجة الاولى ’ لاهوتية بالمعنى الذى يفهمه الأباء أى خبرة
اللاهوت المنسكبة على البشرية كحب مجانى.
وهنا لابد من وقفة مع الاساس الخرستولوجى-المسيحيانى
لقضية العلاقة الجدلية بين الخبرة الروحية والمعرفة اللاهوتية ’ الحل هو فى شخص المسيح
’ الذى هو علم الله النازل فى خيرة حب على البشرية أو فى جسد البشرية ’ التجسد فعل
محبة الله العارفة للبشر ’ هنا نجد أن العقيدة أساس الخبرة ’ ونحن نظن أن الكثير من
التخبط الصادق والصدق المتخبط فى معرفة شخص المسيح نابع من غياب العقيدة المستقيمة
عقيدة المسيحيين التى ما هى الا خبرة روحية صاغوها تعبيرات لاهوتية وكتبوها بالروح
فى جهاد وسهرانيات وقرأة ونسك وفقر اختبارى وحب للقريب يوم قرروا أن يعطوا دما لكى
يأخذو روحا .المسيح هو الله الظاهر فى الجسد ’ هذا الجسد هو جسد البشرية بكل مكونات
الجسد اى الانسان الكامل ’ وهنا تظهر عقيدة شخص المسيح انه اله وانسان فى أقنوم واحد
بلا اختلاط ولا انقسام ولا تغيير حسب عقيدة المجامع ’ نحن فى بشرية المسيح متحدون باللاهوت
’ ولهذا كان المسيح ينموا فى المعرفة والحكمة أمام الله والناس ’ هنا اتحاد كامل وشامل
بين الخبرة والمعرفة فى ضخس المسيح ولا يمكن لنا أن نفهمها الا فى شركة شخص المسيح
بالروح والفهم وهنا لا فارق بين انطونويوس البسيط واغريغورويس العالم فكلهم (قد رأوا
النوز الحقيقى ’ وأخذوا الروح السماوى وعرفوا الايمان الحق فلنسجد للثالوث القدوس الغير
المنقسم لانه خلصنا ) كما نرتل فى نهاية قداس الذهبى الفم يوحنا.وهنا نذوق عطية التشبه
بالله وشركة الطبيعة الالهية بعلم عميق بسيط وبساطة عالمة ’ كل الذى حدث فى بشرية المسيح
حدث فى بشريتنا ’ لا انفصام فى شخص المسيح بين المعرفة اللاهوتية والشركة مع الاب وبساطته
وحبه للناس وحياته اليومية ’ وبالتالى لا يجب ان يكون عند المؤمنين باسمه الشاخصين
اليه هذا الانفصام الا اذا كانوا يتذرعون بالبساطة للهروب من تكالبف وجمود البحث الساجد
والسجود الباحث ’ اى السجود بالروح (الخبرة ) والحق (المعرفة ) على حد تعليم كيرلس
الكبير فى مجلداته الرائعة والتى نقلها الى العربية بتقنية روحية وعلم حاذق الاخ والصديق
والدكتور جورج عوض ابراهيم .المعرفة المستقيمة الرأى هى معرفة فى شركة الكنيسة الواحدة
الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية فى روحانياتها وتاريخها الذى لم ينقطع عن منابعه
الروحية واللاهوتية طوال العشرون قرنا .الوحدة بين الخبرة الروحية والمعرفة اللاهوتية
هى وحدة خرستولوجية نابعة من اتحاد اللاهوت بالانسان فى المسيح ’ بلغة بولس (فيه حل
ملء اللاهوت انسانيا ) وبالتالى ( نحن مملؤؤن فيه ) مملؤؤه لاهوتا انسانيا ’ مملؤؤن
’ طبعا اذا سعينا وراء الملء’ معرفة وخبرة ورؤية ’ مملؤؤن لاهوتا على قدر استطاعتنا
’ هنا يتم تعميد العقل البشرى بتاريخه وانجازاته فى نعمة الروح ’ هنا اساس الخبرات
الروحية الصادقة لاهوتيا وانسانيا ’ نحن المسيحيون المستقيموا الرأى لا يمكن أن يكون
لدينا (محنة العقل)كما وجدها مصطفى جحا فى الاسلام !! ’ بل مستنيرة هى عيون عقولنا
لنعرف ’ المعرفة خبرة والخبرة تنسكب حبرا على الذين اعطاهم الروح نعمة الكتابة والبحث
بصلوالت الذى اعطاهم الروح نعمة الصلاة والتشفع.المسيحية ’ حسب رأى بيار دى لابريول
فى كتابه الهام (ردة فعل الثقافة الوثنية على الرسالة المسيحية فى القرون الاولى (بالفرنسية)
يقول (يخطئ من يظن أن العالم القديم لم يستعمل ضد المسيحيين سوى الحديد والنار ’ فلقد
شن المثقفون الوثنيين عليهم هجوما فكريا ضاريا ’أن المسيحية واجهت تراثا دينيا عبرانيا
طقسيا عرقيا منغلقا يحتكر الله ولغته (ونحن نقول انه اذا ما اصر المسيحيون الاوائل
على البساطة والخبرة بدون علم ولاهوت لضاعت المسيحية ببساطة قبل أن تبدأ!!!) ’ وتراثا
ثقافيا هيللينيا كونيا ولغة راقية سحرت العقول وفلاسفة طرحوا اسئلة نقدية وجودية على
الحياة ’ أى تراثين احدهما روحانى دينى والثانى عقلانى دنيوى .هذا يفسر السبب وراء
هجوم الغنوسيويين وهم هيللينيين الثقافة على العهد القديم ونفس الاتهامات كرررها كلسوس
ويوليانوس الجاحد وتصدى لهم اوريجينوس وغيره )’ جأت المسيحية لتصالح ابناء الثقافات
المتفرقين الى واحد ’ اى لتوحد بين الخبرة والعلم ’ بين اللاهوت والناسوت ’ بين الانسان
وعقله وبيئته وثقافته .لهذا لا نبالغ اذا ما قلنا أن المسيح فى شموله وتاريخه وحياته
وحضوره فى العشرين قرنا الماضية بالجسد فى الكنيسة الجامعة ’ مسيح التاريخ واللاهوت
’ مسيح الروح والحرف ’ مسيح المجامع المسكونية السبع بلا انتقاص ولا زيادة’ مسيح كيرلس
واثناسيوس واغريغوريويس وباسيليوس والذهبى الفم وانطونيوس وباخوميوس وبأيسيوس وبرفوريوس
والدمشقى ومكسميوس المعترف والثلاث الاقمار القديسين ’ مسيح الايقونة’ مسيح الوداعة
والبساطة والهدوء فى وقته ومسيح الفكر والنقد والعلم والصدام اللاهوتى فى حينه الحسن
بدون انصام ولا انقسام ولا شيزوفريننيا ولا حول(بفتح الحاء والواو) روحى وعاهات ذهنية
وأمراض نفسية يتم اسقاطها للكلام فى اللاهوت الانفصامى والانتقائى وبالتالى الهرطوقى
!!! ’ هذا المسيح’ له كل السجود والشكر والمجد والاكرام مع أبيه الصالح والروح القدس
المعطى الحياة’ هو الحل
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire