jeudi 7 avril 2016

البشارة المسيحية بين الاصالة والمعاصرة الاب الدكتور اثناسيوس اسحق حنين



 البشارة المسيحية بين الاصالة والمعاصرة

---
--- البشارة المسيحية بين الاصالة والمعاصرة                            
الاب الدكتور اثناسيوس اسحق حنين                             
دكتوراة فى الاداب القبطية واليونانية              

يكثر الحديث فى هذه الايام فى الشرق عامة ومصر خاصة عن ضرورة تجديد الخطاب الدينى وقد كنا قد اعتدنا على ان هذا التعبير يخص الخطاب الدينى الاسلامى الى ان اطل علينا السيد رئيس الجمهورية فى مصر وبالتحديد فى عيد الشرطة عام 2010 ليطالب بضرورة تجديد الخطاب الدينى الاسلامى والمسيحى ولم يأخذ المراقبون هذه العبارة على انها موازنات معتادة بين عنصرى الامة بل لقد شغلت الباحثين والمفكرين والنخبة لانها وربما لاول مرة فى تاريخ مصر المعاصر ينشغل رئيس الدولة بفحوى ومحتوى ونوعية الخطاب الدينى وهذه ايجابية كبيرة وهى انشغال الدولة فى أعلى قممها بالخطاب الدينى المسيحى واعتباره جنبا الى جنب مع الخطاب الدينى الاسلامى من المكونات الاساسية للامة المصرية ومصدر من مصادرالسلام الاجتماعى وان بذل محاولات لتجديد الخطابين سيعود بالخير والاستقرار على البلاد والعباد فى مصر المحروسة وكنا نتمنى ان ترفق الدولة القول بالفعل وترصد ميزانية مناسبة للابحاث العلمية والاكاديمية فى تاريخ ومكونات ومستقبل الخطاب الدينى فى مصر                                  
ونحن سنحاول فى هذه العجالة معالجة امر الرئيس من وجهة النظر المسيحية الاكاديمية العلمية ونترك للاخوة علماء وفقهاء الدين الاسلامى وهم اكفاء للقيام بمهمة درس الموضوع فى الواقع الاسلامى وان كنا نرى ان خطوط التماس بين الخطابين ليست بهذه الدقة التى يظنها العامة وهذا موضوع بحث اخر                                        
بادئ ذى بدء لا يعرف الخطاب المسيحى كلمة (دين) ولا نجد الا نادرا فى الكتابات المسيحية الاولى كلمة (دين ) وحتى الكلمة التى ترجمتها رسالة يعقوب 1 :27 بالديانة لا تعنى الديانة بالمعنى المعاصر لان اصل الكلمة فى اللغة اليونانية لا تعنى الديانة فالمسيحية منذ نشأتها لم تشعر ولم تقول انها ديانة بالمعنى التقنى السوسييولوجى لكلمة ديانة والمسيح نفسه مؤسس المسيحية لم يقل انه جاء ليؤسس ديانة بل جاء (ليكون لكم حياة وليكون لكم أفضل) ويلاحظ القارئون لحياة يسوع صدامه الدائم ونقده الحاد لمنظومات الديانة اليهودية ومحبته لليهود فى ايامه فالمسيحية هى نهج ومنظومة حياة جديدة ودعوة الى التغيير الجذرى للنوايا والاعمال بالنعمة المعطاة من الله عن طريق المسيح الذى ارسل الروح القدس وهذا نسميه الخطاب اللاهوتى او الحياة الروحية ولسنا هنا بصدد دراسة تاريخ ظهور تعبير الديانة المسيحية فهذا يحتاج الى بحث اخر
المسيحية اذن هى منظومة حياتية روحية تدعو الانسان الى قبول نعمة الانسان الجديد وتترك له الحرية الكاملة بالروح لكى يستثمر حياته وطاقاته فى بناء المجتمع الملكوتى الجديد الذى ينتمى اليه بحب كامل وتواضع كبير وعلم غزير وهى هنا تختلف جذريا عن اليهودية والاسلام                                                                              

التجديد ليس أمرا جديدا:                                                                       
نأتى لقضية الاصالة والمعاصرة فى المسيحية او لنقل التقليد اى التراث والتجديد وهذه القضية لا تمثل للفكر المسيحى قضية معاصرة لان روح التجديد والمعاصرة فى داخل التراث نفسه ظهرت مع ظهور المسيحية الاولى وخاصة منذ زمن كتابة الاناجيل الاربعة وسنقدم فى هذه الدراسة انجيل متى او بشارة متى كمثال على التجديد من خلال الاسئلة المطروحة على التراث ورغم اننا اعتدنا على تسمية يوحنا باللاهوتى فهو لاهوتى التجسد فمتى هو لاهوتى البشارة المسيحية الاولى والذى حاول فى بشارته ان يوفق بين الرؤية التراثية حول شخصية يسوع واحتياجات الكنيسة المسيحية الاولى والناشئة
يجب ان نلاحظ ان علم التفسير(الهرمينوطيقا) قد اسس مبادئ لقرأة النصوص التأسيسة الاولى وخاصة البشائر فهى تقرأ على                                                            
مستويات مختلفة تتكامل ولا تتناقض وهذا النهج فى التفسير له علاقة مباشرة بقضية التجديد فالنص فى الرؤية اللاهوتية المسيحية يحمل اساسات التجديد والنص يحوى اساسات تعديه وتجديده لا الغائه بالطبع(وهذا يختلف جذريا عن ثقافة التنزيل!! ولقد حاول الدكتور نصر حامد أبو زيد ادخال هذا النهج اللاهوتى المسيحى الغربى الى حقل الدراسات الاسلامية فى دراساته واهمها أشكالية القراءة واليات التأويل1994 )
والسبب المباشر وراء كتابة متى لبشارته هو انه استجاب لحاجة المسيحيين المعاصرين له فى ان يعرفوا المزيد وبشكل وافى عن من هو يسوع ؟ وبالطبع لم يكن اهتمام قراء متى ولا متى نفسه ان يكتب بحثا تاريخيا عن يسوع بالمعنى المتعارف عليه اليوم بين المؤرخين لان يسوع كان وقتها هو السيد(كيريوس) القائم من الاموات ورب الكنيسة وان الاهتمام بشخصه فى داخل الكنيسة الاولى انما كان ينطلق من الايمان بان يسوع هو المسيا ابن الله .ولقد شكل الايمان بالمسيح القائم من بين الاموات و المزمع ان ياتى ثانية ليدين الاحياء والاموات وليؤسس ملكوت الله شكل هذا اليقين الاساس والدافع لكل تذكار ليسوع فى العظة والاجتماع الافخارستى والخطاب الاعدادى للمؤمنين الجدد(الموعوظين) وفى اعمال المحبة بأسمه ولقد كانت الكنيسة المؤمنة هى اولى من ينشغل ويبحث عن شخصية يسوع وهذا هو المستوى الاول فى قرأة التراث وهو رؤية الكنيسة الاولى كنيسة ما بعد القيامة للاحداث وقت ظهورها وجاء انجيل متى ليحوى رؤية الاولين والتى صارت مبكرا جدا رؤية تراثية ليسوع او رؤية التراث لشخص وعمل يسوع القائم من بين الاموات والقصد من وراء كل ذلك هو ان يشدد متى ايمان الجماعة الناشئة بالقائم والذى سياتى ليدين العالم ويحقق اكتمال ملكوت الله
ولهذا كثيرا ما يستعمل هذا التراث تعبير (الكيريوس ) للاشارة الى يسوع وهذا اللقب استعملته الكنيسة بشكل خاص للاشارة الى يسوع ما بعد القيامة                       
يوجد ايضا مستوى ثانى لقرأة انجيل القديس متى لا يرتبط بالتراث الكنسى بصفة عامة بل يرتبط بحاجات محددة لجماعة محددة او كنيسة محددة والتى يكتب ويوجه لها متى انجيله فلقد كتب متى بشارته لكى يجيب عن اسئلة محددة وجهتها اليه كنيسته المحلية فهذا الانجيل لم يكتب بشكل عام لكل الكنائس فى الارض كلها فهذا اذا تم بعد ذلك فليس لانه كان فى ذهن الكاتب بل فى قصد الله والشئ الذى يؤكده العلماء ان متى قد واجه قضايا تعليمية وكنسية وتبشيرية لم يواجهها بقية الانجيليين وهذا يعطى لانجيل متى مكانة خاصة فى التراث المسيحى                                                                    
وهذا الخصوصية تخلق لونا من الدهشة عند القارئ وربما يتسأل كيف يمكن لله ان يتكلم هكذا وبشكل صريح فى مواقف بسيطة سواء من الناحية التاريخية او الناحية الانسانية ويجب ان لا ننسى ان جزأ كبيرا من كتابات العهد الجديد عبارة عن رسائل للاجابة عن اسئلة محددة للمؤمنين او الموعوظين (رسائل بولس والرسائل الجامعة) اى نصوصا مكتوبة الى جماعات محددة وللاجابة عن حاجات محددة ولكن هناك من المؤمنين من يفضل ان تتكلم النصوص بشكل عام ومجرد وأن تشير الى حالات بشرية غير زمنية وغير محددة وليس لقضايا وقتية وظرفية وهذا لان الامور المجردة والغير زمنية والتى لا تنشغل بقضايا تافهة لا معنى كبير لها تقترب اكثر فى رأيهم الى الامور الابدية او الميتافيزيقية بينما الامور المحددة والملموسة قد تنال من هيبة الرسالة الابدية
وهذا الرؤية فيها مغالطة كبيرة وهى متأثرة بالافكار الفلسفية اليونانية الميتافيزيقية اللازمنية القديمة وتتجاهل اعلانات الله المحددة فى داخل نسيج التاريخ البشرى وفى مواقف تاريخية محددة ووسط احداث حياتية احيانا تبدوا مصيرية واحيانا اخرى تبدوا بسيطة وعابرة كما جأت فى العهد القديم فالله يعلن ارادته وخططه لشعبه من خلال احداث وحقائق تاريخية (الله بعد ما كلم(اى عمل ونفذ) الاباء بالانبياء قديما بانواع وطرق كثيرة كلمنا فى هذه الايام الاخيرة فى ابنه (اى فى احداث تاريخية محددة كالميلاد والصلب والقيامة) الذى جعله وارثا لكل شئ )عب 1 :1 فالتاريخ فى مفهوم الكتاب المقدس هو وسيلة التعبير او حامل الاعلان الالهى واذا لم ينجح احد فى فهم كيفية قرأة ودراسة التاريخ كما فهمه وقرائه أنبياء اسرائيل(تاريخ الخلاص) فأنه لن يقدر ان يتأكد ماذا يريد الله منه ومن البشرية جمعاء                                                       
فالمسيحية لم تقبل ابدا ولم تعلن بشكل رسمى ان تاريخ الناس بالنسبة لها هو أمر ثانوى وشكلى او انه مجرد رمز لبعض الحقائق الابدية كما تقول نظرية المثل الافلاطونية وهذا الموقف وان وجد فى بعض الاوساط المسيحية فقد تم الحكم عليه على انه بدعة (الدوكوتية اى الشبهية راجع الاباء الرسوليون بيروت 1982 ص122 )ونحن نعتقد ان هناك علاقة وثيقة بين المفهوم الاسلامى للنسخ وبين هذه الرؤية الدوكيتية الشبهية للتاريخ !!فالتاريخ البشرى سواء فى العهد القديم او الجديد هو متداخل ومرتبط ارتباط مصيرى مع وبالرسالة المسيحية والتى بدورها لا يمكن ان تفهم فهما صحيحا بمعزل عن ظروفها التاريخية المحددة وبدون هذا الظرف التاريخى المحدد فيمكن لاى انسان ان يقول ما يشاء ويتخيل ما يروق له من افكار حول شخصية يسوع واقواله واعماله وهكذا ستصير المسيحية لون من الوان الايديولوجيات ونحن نعلم كم تمسكت الكنيسة الاولى بحقيقة وواقعية وجود يسوع فى الجسد اى فى تاريخ الناس فالله فى يسوع دخل تاريخ الناس ولهذا فكل من لا يعترف ان يسوع المسيح قد جاء فى الجسد(اى دخل تاريخ الناس ولبس جسدهم) فليكن محروما (1يو4 : 1-10 ) ولهذا فاسم متى بالتحديد لا يعلن فقط عن حالة من الوحى الالهى السماوى بل يعلن ايضا وبنفس القوة حالة ووضع تاريخى محدد وظروف عينية يمكن دراستها والتأكد من صحتها بمنهجية علمية رصينة وهذه الظروف التاريخية مرت بها الجماعة المسيحية الاولى بمؤمنيها وموعوظيها وهى التى دفعت متى ان يعمل عمل اللاهوتى والمعلم للاجابة على اسئلة محددة فى ظروف كنسية محددة وهى اسئلة تتعلق بالعلاقة بين الرسالة المسيحية ومفاهيميها والديانة اليهودية وعوائدها وايضا تتعلق بالبشارة المسيحية الاولى و ضرورتها وابعادها اللاهوتية والخرستولوجية والكنسية والاخروية وعن كيفية انتشارها                                                 
ورغم ان هذه الافكار تبدوا امورا واضحة وطبيعية ومفروغ منها عند الاختصاصيين والعلماء والدارسين للبشارة المتاوية الا اننا نرى اننا نحتاج الى بعض الامثلة لكى نتفهم اكثر هذا المستوى الثانى من دراستنا للنص الانجيلى لمعلمنا متى البشير              
ولقد كتبت المئات من الدراسات حول انجيل متى وابعاده الخرستولوجية والكنسية والاخروية(الاسخاتولوجيا ) ويمكن للقارئ ان يراجع مقدمات لاهوت العهد الجديد التى صدرت بلغات اوربية عديدة وخاصة باللغة الالمانية (موجز لاهوت العهد الجديد ) وهذه الابحاث ترى وتوثق ان متى دخل فى حوار مع التيارات الفكرية السائده فى ايامه واهمها التيار الفريسى اليهودى(راجع قاموس الكتاب المقدس باب الفريسيين ص 674 )وايضا مع بعض الاتجاهات التى ظهرت داخل الجماعة المسيحية الاولى فمتى يعيد قرأة (طبعا بعد مرقس ) السمات الاولى لتاريخ حياة يسوع ولقد حث جماعته على ان تتجه فى البشارة الى الامميين واقنعها لكى تتوقف ان تعتبر نفسها شيعة من ضمن الشيع اليهودية وان تتجه الى نشر ثقافة المصالحة والغفران والمحبة ليس فقط وسط الجماعة المسيحية التى كان يتولى رعايتها بل الى كل الامم ولقد اكد لهم ان ابن الانسان سيدين اليهود كما سيدين الامم الذين ارسلهم ليبشروهم والان نأتى الى الامثلة التى توضح القصد من هذه الدراسة وهو العلاقة بين القديم والجديد وبين التراث والمعاصرة ونكرر ان الاناجيل وخاصة انجيل متى يحمل فى ثناياه نصوصه القديمة روح التجديد وتعدى القديم :
والمثل الاول الذى يوضح ما سبق وقلناه من ان التراث يحمل بذار تجديده شرط ان يتم قرا ئته بالروح وبالعمق التاريخى واللغوى والاهم قرأئته من خلال اسئلة الناس وهموم الواقع وهذا المثل يخص موضوع الصوم والانجيلى متى يقدم تعليم يسوع عن الصوم فى العظة على الجبل (ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائيين                          
فأنهم يغيرون وجوههم لكى يظهروا للناس صائمين الحق أقول لكم أنهم قد أستوفوا أجرهم وأما أنت فمتىصمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكى لا تظهر للناس صائما بل لابيك الذى فى الخفاء فابوك الذى يرى فى الخفاء يجازيك علانية) مت 6 :16-18 )وبشكل مختصر فى علاقة الصوم بالصلاة وعمل الرحمة(أحترزوا من أن تصنعوا                           رحمة قدام الناس لكى ينظروكم (                                                       
الترجمة الادق لكلمة الصدقة)وألا فليس لكم اجر عند ابيكم الذى فى السموات فمتى صنعت صدقة فلا تصوص قدامك بالبوق كما يفعل المرأوون فى المجامع وفى الازقة لكى يمجدوا من الناس الحق الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا اجرهم واما انت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكى تكون صدقتك فى الخفاء فابوك الذى يرى فى الخفاء هو يجازيك علانية )متى 6 :1-4 وهذه الصفات الثلاثة اعتبرها الفريسيون ايام متى من اهم صفات الاسرائيلى الحقيقى اذا الظرف التاريخى الوضعى لهذا النص واضح والتعليم المسيحى واضح فى انجيل متى انه موجه ضد تعاليم الفريسيين المرائين لتثقيف المسيحيين بثقافة العهد الجديد ولقد قدم متى تعاليم يسوع فى هذا الصدد على ان هذه السمات اليومية لتقوى المؤمن هى وحسب روح تعاليم يسوع هى امورتخص العلاقة الحياتية الشخصية الروحية الباطنية للانسان مع الله الاب(فى الخفاء) وليست اوامر ونواهى دينية قانونية حسب تعاليم الفريسيين علماء الدين اليهودى والتى يؤدى حفظها شكليا والتمسك بها حرفيا والافتخار بها مظهريا فى مجتمع ينبهر بهذه المظاهر الدينية وينحنى امامها بدون البحث عن اعماقها ومردوداتها الى نوال لون من الوان التبرئة القانونية مع تحقيق بعض المصالح والمنافع الدنيوية                   
ففى هذه الحالة حالة الصوم يحاول متى الانجيلى ان يذكر المؤمنين بتعاليم يسوع عن الصوم وربما سالوه عنها وذلك وسط اجواء هللينية ويهودية وحيث اثارت ممارسات الفريسيين للصوم ردود افعال وتساؤلات داخل الكنيسة المسيحية وهنا روح التجديد وسط المغالطات باسم القديم ومن المعروف من المصادر المسيحية الاولى ان الصوم قد دخل المسيحية من اليهودية(الديداخى الاثنى عشر رسولا الفصل الثامن وايضا صوم يوم الاربعاء والجمعة لان الفريسيين كانوا يصومون الاثنين والخميس) وظهرت الحاجة وسط المسيحيين ان يعرفوا الفارق بين صومهم وصوم اليهود وهنا نوجد فى المنطقة الحساسة اى زمن كتابة متى لانجيله والظروف التى عاشتها كنيسته                 
وهناك اشارات اخرى للصوم تعود الى التقليد الاقدم فى حياة يسوع وتلاميذه حيث لم يكن يسوع وتلاميذه يصومون (حينئذ جاء اليه تلاميذ يوحنا قائلين لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرا واما تلاميذك فلا يصومون)متى 9-14 )ولكن نرى ايضا فى متى 11 :18-19 (لانه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان جاء ابن الانسان يأكل ويشرب فيقولون هوذا انسان اكول وشريب خمرمحب للخطاة والعشارين والحكمة تبررت من بنيها ) وهنا يتكلم يسوع عن الفارق بينه وبين يوحنا المعمدان فى موضوع الصوم وعلاقته بالنسك وبالحياة الاجتماعية ومع ذلك فقد رفضت القيادات الدينية اليهودية كلا النهجين فى الصوم اى نهج يوحنا الذى لا يأكل ولا يشرب ولا يخالط الناس ويسكن الصحراء ونهج يسوع الذى يأكل ويشرب ويجول فى البلاد يصنع الخير والسلام الاجتماعى                                                                                 
وقام يسوع بشرح السبب فى عدم صوم تلاميذه مستخدما صورا من الواقع اليومى فتلاميذه مدعوون الى عرس المسيا مع الكنيسة ولا يصح ان يصومون (هل يستطيع بنو العرس ان ينوحوا مادام العريس معهم ولكن ستأتى ايام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون)متى 9: 15                                                                         
وتعبير (حينما يرفع العريس ) هو تعبير لاهوتى يرجع الى التقليد المسيحى الاول ويقصد به صعود السيد وجلوسه عن يمين العرش السماوى وهذه الاية تظهر طابع الفرح بالشركة مع يسوع وحزن الكنيسة على الفراق الوقتى بالطبع لانهم كانوا ينتظرون عودة يسوع سريعا والفرح الدائم بالشركة الاخروية مع خاصته وبمعنى اخر فان الصوم المسيحى لا يجد معناه فى مفهوم الديانة اليهودية عن الثواب والعقاب بل معناه فى العقيدة المسيحيانية والاخروية (الخرستولوجيا والاسخاتولوجيا ) التى سادت الكنيسة الاولى اى ارتباطه بشخص المسيح وظهوره الثانى والجماعة المسيحية الاولى وان كانت قد أخذت الصوم من الديانة اليهودية أنما لتعبر عن مضمون مختلف تماما وهو ان تلتقى و تقتنى العريس مرة اخرى والى ان يأتى ثانية (الباروسيا) فان الكنيسة تظهر حزنها فى الفراق ورجائها فى اللقاء بالصوم وهذا هو التجديد فى مفهوم الصوم فى علاقته بالصوم اليهودى اى التراث القديم                                                                       
ويدخل يسوع فى العدد 16 من الاصحاح التاسع من بشارة متى الى اعماق ابعد حينما يقول (ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ ولا يجعلون خمرا جديدة فى زقاق عتيقة لئلا ينشق الزقاق فالخمر تنصب والخمر يتلف بل يجعلون خمرا جديدة فى زقاق جديدة فتحفظ جميعا ) وبتعبير اخر فان المسيحية هى شئ جديد تماما ولهذا فهى فى علاقتها بالقديم لا تقبل العلاقة الشكلية والمتصنعة والذين ادانوا تلاميذ يسوع ومازالوا لا يفرقون بين الرسالة المسيحية الجديدة وطقوس الديانة اليهودية العتيقة لا يعرفون ولا يفهمون ان التلاميذ من وجهة النظر الدينية البحتة يمثلون امرا جديدا ولا يجب ان نحكم عليهم او ندينهم على اساس القديم (وسوف تظهر هذه المشكلة وبشكل عنيف هدد سلامة ووحدة الكنيسة المسيحية وعرفت باسم ظاهرة التهود فى اعمال الرسل ص 15 )                                      
فالاطار العام الذى وردت فيه الايات 9 :14-17 تختلف تماما عن الاطار الذى وردت فيه الايات 6 :16-18 فاذا كان ايات اصحاح9 :14-17 هى اعتراف لاهوتى للكنيسة الاولى وهى تشرح السبب وراء عدم صوم الكنيسة فى البداية وفيما بعد صامت فهنا نحن نوجد فى المستوى الاول للتقليد المسيحى بينما فى النص 6 :16-18 يندمج فى المستوى الثانى من تاريخ التقليد المسيحى حيث صارالصوم امرا مقبولا ولهذا يظهر اهميته الروحية والاخلاقية عكس المعنى الذى اعطاه للصوم بعض الفريسيون والشئ اللافت ان المسيحيين لم يترددوا فى تبنى صوم الفريسيين او تلاميذ يوحنا ولكن اعطوا لهذه الاصوام فحوى مسيحيانى (اى مرتكز على شخص المسيح) واسخاتولوجى (اى بعيون شاخصة الى المجئ الثانى للسيد)والصوم الوحيد الذى كان فرضا على كل اليهود هو صوم يوم كيبور                                                                             
المثال الاخر على تعدد مستويات الفهم المسيحى فى الجماعة المسيحية الاولى للتراث الانجيلى والقدرة على التجديد من خلال نفس النص هو النصوص الخاصة بارسالية التلاميذ الى حقل البشارة ففى الاصحاح العاشر والايات من 1 الى 42 يظهر بوضوح ان البشير متى قد قام بتجميع عدة مصادر شفاهية او مكتوبة تتعلق باهمية البشارة والارسالية والمشاكل التى صاحبت الارسالية من حيث قبول بعض المدن لهم ورفض البعض الاخر وقضية أعاشة ونفقات المرسلين ومكان أقامتهم والمتاعب التى واجهوها وتسليم المرسلين للسلطات القضائية بيد اعداء الرسالة ومعاناة المرسلين من عائلاتهم ووصل الامر الى تسليمهم للموت والاعتراف بيسوع او انكاره والصدام فى داخل العائلات التى خرج منها المرسلين وكيف ان يسوع موجود داخل كل مرسل ومبشر ونظرة فاحصة على هذا الكم الكبير من المعلومات والوعود(متى 5-7 :13-18 24-25 ) يؤكد ما سبق وقلناه من ان البشير متى يقوم بتجميع مادة انجيله من التقليدات السائدة حول يسوع فى الجماعة المسيحية الاولى وخاصة عن المقاومة العنيفة التى شهدتها البشارة والمبشرين والالام التى عانوها وهذا الاطار العام للبشارة يربطه متى باطار خاص وهو البشارة لليهود اى يعيد قرأة التراث اليهود المسيحى السائد على ضوء المستجدات التبشيرية بشخص المسيح والرعوية كالمستجدات فى الكنيسة من انضمام الامميين واسئلة اليهود المتنصرين(هؤلاء ارسلهم يسوع واوصاهم قائلا الى طريق امم لا تمضوا والى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحرى الى خراف بيت اسرائيل الضالة وفيما انت ذاهبون اكرزوا قائلين انه قد اقترب منكم ملكوت السماوات )مت 10 :5 -6 وكأنه لم يكتفى بربط الرؤية العامة للبشارة بيسوع بالحالة المحددة لليهود يذهب متى الى ابعد من ذلك بتحديد البشارة فى (مدن اسرائيل ) وان هذا الظرف التاريخى المحدد سيمتد الى مجئ الرب الباروسيا (ومتى طردوكم من مدينة فاذهبوا الى الاخرى فانى الحق اقول لكم لا تكملون مدن اسرائيل حتى يأتى ابن الانسان)متى 10 :23 ولم يكن فى ذهن متى ولا قرائه ان اناسا فى الالفية الثالثة سيقرأون هذه النصوص !!والقضية الاساسية مع هذه النصوص هى الربط بين قضايا عامة تراثية هى التبشير وقضية وموقف تاريخى جديد محدد وهو التبشير لليهود وظهور مشاكل جديدة لم تكن معروفة من قبل اى قبل حوالى اربعين عاما منذ القيامة مع ان بشارة متى معروفة عند المفسرين على انها بشارة المسكونة كلها لان السيد فى النهاية يامر تلاميذه بعد ان بذل مع اليهود كل المحاولات (فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الاب والابن والروح القدس وعلموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به وها انا معكم كل الايام والى انقضاء الدهر )مت 28 : 19 بالطبع كلام متى عن البشارة يشكل شرحا لما ورد عند مرقس (6 :7-13 ) ولوقا (9 :1-6 ) فعند مرقس ولوقا تأخذ توصيات يسوع بخصوص البشارة طابعا عاما ومركزا وهى تشير الى مهمة الرسل للبشارة وتشير الى ذهابهم فى هذه المهمة وعودتهم منها(متى 10 :17) وهذا لا نجده عند متى اما فيما يتعلق بالرسل الاثنى عشر عند مرقس ولوقا فلا تحوى اناجيل مرقس ولوقا اية معلومات عن مساحة البشارة الحغرافية ولا عن الاضطهادات التى سيواجهونها ولا الضيقات بينما عند متى تشكل هذه الامور اساس الرواية وهذا امر يجب ان ينتبه اليه القارئ وذلك انه حتى فى ارسالية السبعين مبشرا يتم التعبير عن المقاومة التى سيواجهونها فى عملهم بخصوص صعود يسوع الى اورشليم والامه يتم التعبير عنها بشكل عام (متى 10 :10 )و(متى 10 :3 ) اى ان ما يميز متى عن باقى الرسل انه يلقى ضوء اكبر على الارسالية الى بيت اسرائيل وعلى الاضطهادات التى ستنتج عن هذه الارسالية وكذلك الاشارة الى ان البشارة ستقوم الى المجئ (الباروسيا) وهذا ينسجم مع الظروف السياسية والاجتماعية فى فلسطين فى ذلك الوقت فبشارة متى كتبت وقت ما انتهت ارسالية الاثنى عشر وكان قد تم تدمير فلسطين على يد الرومان(70 م ) ومات معظم التلاميذ الاثنى عشر وتم تسليم الرسالة والانجيل الى العالم الاممى والاهم من ذلك ان المجئ اى الباروسيا لم يتم سريعا كما توقع الجميع وحسب وعد السيد وهذه قضية هامة جدا فى تاريخ الكنيسة المسيحية الاولى وتستحق دراسة خاصة لانها قد شكلت شكل البشارة واثرت فى الامور الرعوية للكنيسة فبعد ان كانت الكنيسة تتجه راسيا فى حياتها ورؤيتها بدأت فى النظر افقيا لتدبير امور البشارة بعد ان تأخر المجئ !                                                           
هنا سيفهم القارئ ظروف وملابسات البشارة والارسالية حسب انجيل متى(متى 10 ) ولقد شكلت هذه القضايا صعوبات للمفسرين قديما وحديثا
Herman Johnson, The Interpreter,s Bible
7 Abington Press page 205
والنصوص الاخرى التى توضح موضوعنا هى النصوص الخاصة بالرسالة وبالارسالية والواردة فى الاصحاح العاشر وهى الارسالية الاثنى عشر الى اليهود المقيمين بفلسطين والنص الاخر هو الاخير من انجيل متى (فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم وعمدوهم باسم الاب والابن والروح القدس وعلموهم ان يحفظوا جميع ما اوصيتكم به وها انا معكم كل الايام الى انقضاء الدهر امين ) والفوارقوالفوارق بين هذه النصوص من ناحية البشارة لليهود وللامم تؤكد ان متى يريد ان يجدد فى الترات الذى وجده ويوسع دائرة البشارة الى الامم بعد ان كانت محصورة فى اليهود وهذا يظهر وجود جماعات مسيحية من اصل يهودى ومسيحية من اصل اممى يعيشون معا فى الكنيسة ويحتفظون برؤى متعددة للرسالة المسيحية وهذه القضية ستظهر فيما بعد بشكل اكثر حدة كما سبق واشرنا ولن يحلها الا مجمع كبير جمع كل الرسل والمسئولين فى مجمع اورشليم (اعمال الرسل 15 ) والربط بين الاصحاح العاشر والاصحاح الثامن عشر بخصوص البشارة يظهر محاولات متى لكى يجدد فى التراث الذى استلمه ليس ليقوم بعمل (توفيقات او مساومات او تلفيقات لفظية لا اساس لاهوتى لها ) بل برؤية لاهوتية وخرستولوجية واسخاتولوجية رصينة وهذا لا يعنى ان يسوع لم يكن مهتما بالبشارة وسط اليهود ولكن المشكلة ان اليهود تعاملوا مع المبشرين المسيحيين بنفس الطريقة العنيفة التى تعاملوا بها مع يسوع نفسه والتجديد هو اعادة قرأة تاريخ البشارة فى شخص يسوع القائم من الاموات وبروح مسكونية واتساع روحى                                                                         

والمثال الثالث هو الذى يتعلق بالروح الجديد الذى فسر به يسوع نفسه الشريعة اليهودية فهل من الممكن ان نتمسك بحرف الناموس كما ورد فى متى 5 :17 -20 بينما النصوص اللاحقة فى متى 5 : 21-48 تظهر ان يسوع نفسه يراجع ويصحح ويجدد فى الناموس اليهودى بالقول المشهور (سمعتم انه قد قيل للقدماء اما انا فاقول لكم ) وبعض المفسرين يتكلمون عن ان يسوع قد الغى الناموس بتكميله بينما البعض يرون انه (اكمله بالغائه)اى باضافة امورا لاهوتية بدونها لا يكمل الناموس فكيف نقدر ان نشرح هذا التناقض الشكلى او الموضوعى نحن نعتقد ان هناك تيارا يهوديا مسيحيا قويا فى الكنيسة كان يرى ان المبادئ الروحانية والاخلاقية المسيحية تؤدى ليس فقط الى حفظ العهد القديم بل الى تتعدى ذلك المستوى وهذا يشمل موقف يسوع نفسه من الناموس والبعض ينتقد متى للصراع وبين الانجيل والناموس والذى سيظهر فيما بعد فى لاهوت بولس وبشكل اكثر حدة وقوة.                                                                                     

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire